كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {قالوا ماذا} هو جوابُ إذا، وقوله: {قالوا الحقَّ} جوابٌ لقولِه: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ}. و {الحقَّ} منصوبٌ ب {قال} مضمرةً أي: قالوا قال ربُّنا الحقَّ. أي: القولَ الحقَّ. إلا أنَّ الشيخَ رَدَّ هذا فقال: فما قَدَّره ابنُ عطية لا يَصِحُّ لأنَّ ما بعدَ الغايةِ مخالِفٌ لِما قبلَها، هم منقادون عَبَدَةٌ دائمًا، لا ينفكُّون عن ذلك لا إذا فُزِّع عن قلوبِهم، ولا إذا لم يُفَزَّعْ.
الثالث: أنه قولُه: {زَعَمْتُم} أي: زعمتم الكفر إلى غايةِ التفزيع ثم تركْتُمْ ما زعمتم وقلتم قال الحقَّ. وعلى هذا يكونُ في الكلام التفاتٌ مِنْ خطابٍ في قولِه: {زَعَمْتم} إلى الغَيْبة في قوله: {قلوبهم}.
الرابع: أنه ما فُهِم مِنْ سياقِ الكلامِ. قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: بأيِّ شيءٍ اتَّصل قولُه: {حتى إِذَا فُزِّعَ} ولأيِّ شيء وقعت {حتى} غايةً؟ قلت: بما فُهِم من هذا الكلامِ مِنْ أَنَّ ثَمَّ انتظارًا للإِذْنِ وتوقُّفًا وتمهُّلًا وفَزَعًا مِن الراجين للشفاعةِ والشفعاء هل يُؤْذَنُ لهم، أو لا يُؤْذَن؟ وأنه لا يُطْلَقُ الإِذنُ إلاَّ بَعْد مَلِيٍّ من الزمان وطولٍ من التربُّصِ. ودَلَّ على هذه الحالِ قولُه تعالى: {رَّبِّ السماوات} إلى قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 37-38] فكأنه قيل: يَتَرَبَّصون ويتوقَّفون مَلِيًَّا فَزِعينَ وَهِلين، حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبِهم أي: كُشِفَ الفَزَعُ عن قلوبِ الشافعين والمشفوعِ لهم بكلمةٍ يتكلم بها ربُّ العزةِ في إطلاقِ الإِذن، تباشروا بذلك، وسأل بعضُهم بعضًا: ماذا قال ربُّكم قالوا: الحق. أي: القولَ الحقَّ وهو الإِذنُ بالشفاعةِ لِمَنْ ارْتَضَى.
وقرأ ابنُ عامر {فَزَّع} مبنيًا للفاعل. فإنْ كان الضميرُ في {قلوبهم} للملائكةِ فالفاعلُ في {فَزَّع} ضميرُ اسمِ الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه. وإن كان للكفارِ فالفاعلُ ضميرُ مُغْوِيْهم. كذا قال الشيخ. والظاهر أنه يعودُ على الله مطلقًا. وقرأ الباقون مبنيًَّا للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ بعده. وفَعَّل بالتشديد معناها السَّلْبُ هنا نحو: قَرَّدْتُ البعيرَ أي: أَزَلْتُ قُراده، كذا هنا أي: أزالَ الفَزَعَ عنها.
وقرأ الحسن {فُزِعَ} مبنيًا للمفعول مخففًا كقولِك: ذُهِب بزيدٍ.
والحسن أيضًا وقتادة ومجاهد {فَرَّغَ} مبنيًا للفاعل من الفراغ. وعن الحسن أيضًا تخفيفُ الراء. وعنه أيضًا وعن ابنِ عُمَر وقتادة مشددَ الراء مبنيًا للمفعول.
والفَراغُ: الفَناء والمعنى: حتى إذا أَفْنى اللَّهُ الوَجَلَ أو انتفى بنفسِه، أو نُفِي الوَجَلُ والخوفُ عن قلوبهم فلمَّا بُني للمفعولِ قام الجارُّ مَقامَه. وقرأ ابن مسعود وابن عمر {افْرُنْقِعَ} من الافْرِنْقاع. وهو التفرُّقُ. قال الزمخشري: والكلمةُ مركبةٌ مِنْ حروف المفارقة مع زيادة العين، كما رُكِّب اقْمَطَرَّ من حروفِ القَمْطِ مع زيادة الراء. قال الشيخ: فإنْ عَنَى أنَّ العينَ من حروفِ الزيادة، وكذا الراء، وهو ظاهرُ كلامِه فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ العين والراء ليسا مِنْ حروف الزيادةِ. وإنْ عنى أنَّ الكلمة فيها حروفُ ما ذُكِر، وزائدًا إلى ذلك العينُ والراء، والمادةُ فَرْقَعَ وقَمْطَر فهو صحيحٌ انتهى. وهذه قراءةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد، ومع ذلك هي لفظةٌ غريبةٌ ثقيلةُ اللفظِ، نَصَّ أهلُ البيانِ عليها وَمثَّلوا بها. وحَكَوْا عن عيسى بنِ عمر أنه غُشِيَ عليه ذاتَ يومٍ فاجتمع عليه النَّظَّارَةُ فلمَّا أفاق قال: أراكم تَكَأْكَأْتُمْ عليَّ تَكَأْكُؤَكم على ذي جِنَّةٍ افرَنْقِعوا عني أي: اجتمعتُمْ عليَّ اجتماعَكم على المجنونِ تَفَرَّقوا عني، فعابَها الناسُ عليه، حيث استعمل مثلَ هذه الألفاظِ الثقيلةِ المستغربةِ.
وقرأ ابن أبي عبلة {الحقُّ} بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: قالوا قولُه الحقُّ.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}.
قوله: {أَوْ إِيَّاكُمْ} عطفٌ على اسم إنَّ. وفي الخبرِ أوجهٌ، أحدها: أنَّ الملفوظَ به الأولُ وحُذِفَ خبرُ الثاني للدلالة عليه. أي: وإنَّا لعَلى هُدىً أو في ضلال، أو إنكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ. والثاني: العكسُ أي: حُذِف الأولُ، والمَلْفوظُ به خبرُ الثاني. وهو خلافٌ مشهورٌ تقدَّم تحقيقُه عند قولِه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. وهذان الوجهان لا يَنْبغي أَنْ يُحْمَلا على ظاهرهِما قطعًا؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَشُكَّ أنه على هدىً ويقينٍ، وأنَّ الكفارَ على ضلالٍ، وإنما هذا الكلامُ جارٍ على ما يَتَخاطَبُ به العربُ من استعمالِ الإِنصاف في محاوراتِهم على سبيل الفَرَضِ والتقدير ويُسَمِّيه أهلُ البيانِ الاستدراجِ وهو: أَنْ يَذْكُرَ لمخاطبهِ أمرًا يُسَلِّمه، وإنْ كان بخلافِ ما يَذْكر حتى يُصْغَي إلى ما يُلْقيه إليه، إذ لو بدأه بما يَكْرَهُ لم يُصْغِ. ونظيرُه قولُهم: أَخْزَى اللَّهُ الكاذبَ مني ومنك. ومثلُه قولُ الشاعر:
فَأَيِّي ما وأيُّك كان شَرًَّا ** فَقِيْدَ إلى المَقامةِ لا يَرَاها

وقولُ حسان:
أَتَهْجُوه ولَسْتَ له بكُفْءٍ ** فَشَرُّكُما لخيرِكما الفِداء

مع العلم لكلِّ أحدٍ أنه صلَّى الله عليه وسلَّم خيرُ خَلْقِ اللَّهِ كلِّهم.
الثالث: أنه من بابِ اللفِّ والنَّشْرِ. والتقدير: وإنَّا لعلى هُدَىً وإنكم لفي ضلال مبين. ولكن لَفَّ الكلامين وأخرجَهما كذلك لعدمَ اللَّبْسِ، وهذا لا يتأتَّى إلاَّ أَنْ تكونَ أو بمعنى الواوِ وهي مسألةُ خلافٍ. ومِنْ مجيءِ أو بمعنى الواو قولُه:
قَوْمٌ إذا سَمِعوا الصَّرِيْخَ رَأَيْتَهُمْ ** ما بين مُلْجم مُهْره أو سافِعِ

وتقدَّم تقريرُ هذا وهذا الذي ذكرْتُه منقولٌ عن أبي عبيدة. الرابع: قال الشيخ: وأو هنا على موضوعِها لكونِها لأحدِ الشيئَيْن وخبرُ {إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} هو {لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ولا يُحتاج إلى تقديرِ حذفٍ؛ إذ المعنى: أنَّ أحَدنا لَفي أحدِ هذَيْن كقولِك: زيدٌ أو عمروٌ في القصر أو في المسجدِ لا يُحتاج إلى تقديرِ حَذْفٍ إذ معناه: أحدُ هذَيْن في أحدِ هذين. وقيل: الخبرُ محذوفٌ، ثم ذَكَرَ ما قَدَّمْتُ إلى آخره. وهذا الذي ذكره هو تفسيرُ معنًى لا تفسيرُ إعرابٍ، والناسُ نظروا إلى تفسيرِ الإِعراب فاحتاجوا إلى ما ذكرْتُ.
{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)}.
قوله: {الفتاح العليم} صِفتا مبالغةٍ. وقرأ عيسى بن عمر {الفاتحُ} اسمَ فاعلٍ.
{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}.
قوله: {أَرُونِيَ} فيها وجهان، أحدهما: أنها عِلْميةٌ متعديةٌ قبل النَّقْلِ إلى اثنين فلمَّا جيْءَ بهمزةِ النقلِ تَعَدَّتْ لثلاثةٍ أوَّلُها: ياء المتكلم، ثانيها: الموصولُ، ثالثها: {شركاء} وعائدُ الموصول محذوفٌ أي: أَلْحَقْتموهم به. الثاني: أنها بَصَرِيَّةٌ متعديةٌ قبل النقل لواحدٍ وبعده لاثنين، أوَّلُهما ياء المتكلم، ثانيهما الموصولُ، و {شركاء} نصبٌ على الحالِ مِنْ عائد الموصول أي: بَصِّرُوْني المُلْحقين به حالَ كونِهم شركائي.
قال ابن عطية في هذا الثاني: ولا غَناء له أي لا مَنْفعةَ فيه يعني: أنَّ معناه ضعيفٌ. قال الشيخ: وقوله: لا غَناء له ليس بجيدٍ، بل في ذلك تبكيْتٌ لهم وتوبيخٌ، ولا يريد حقيقةَ الأمرِ بل المعنى: الذين هم شركائي على زَعْمِكم هم مِمَّنْ إنْ أَرَيْتُموهم افْتََضَحْتُمْ؛ لأنهم خشبٌ وحجرٌ وغيرُ ذلك.
قوله: بل هو في هذا الضميرِ قولان، أحدُهما: أنه ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى أي: ذلك الذي أَلْحَقْتُمْ به شركاء هو اللَّهُ. والعزيز الحكيم صفتان. والثاني: أنه ضميرُ الأمرِ والشأنِ. واللَّهُ مبتدأ، والعزيزُ الحكيمُ خبران. والجملةُ خبر هو.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)}.
قوله: {كَآفَّةً} فيه أوجه، أحدها: أنه حالٌ من كاف {أَرْسَلْناك} والمعنى: إلاَّ جامعًا للناس في الإِبلاغ.
والكافَّةُ بمعنى الجامع، والهاء فيه للمبالغة كهي في: عَلاَّمة وراوِية. قاله الزجاج. وهذا بناء منه على أنه اسمُ فاعلٍ مِنْ كَفَّ يَكُفُّ. وقال الشيخ: أمَّا قولُ الزجَّاج: إن كافَّة بمعنى جامعًا، والهاء فيه للمبالغة؛ فإنَّ اللغَةَ لا تُساعِدُه على ذلك؛ لأنَّ كَفَّ ليس معناه محفوظًا بمعنى جَمَعَ يعني: أن المحفوظَ في معناه مَنَع. يقال: كَفَّ يَكُفُّ أي: مَنَع. والمعنى: إلاَّ مانعًا لهم من الكفرِ، وأن يَشُذُّوا مِنْ تَبْليغِك، ومنه الكفُّ لأنها تمنع خروج ما فيه.
الثاني: أنَّ {كافَّة} مصدرٌ جاء على الفاعِلة كالعافِية والعاقِبَة. وعلى هذا فوقوعُها حالًا: إمَّا على المبالغةِ، وإمَّا على حذف مضافٍ أي: ذا كافَّةٍ للناس.
الثالث: أنَّ {كافَّة} صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه: إلاَّ إرْسالةً كافَّةً. قال الزمخشري: إلاَّ إرْسالةً عامةً لهم محيطةً بهم؛ لأنها إذا شَمِلَتْهُم فقد كَفَتْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ منها أحدٌ منهم. قال الشيخ: أمَّا كافَّة بمعنى عامَّة، فالمنقولُ عن النحويين أنها لا تكونُ إلاَّ حالًا، ولم يُتَصَرَّفْ فيها بغير ذلك، فَجَعْلُها صفةً لمصدرٍ محذوفٍ خروجٌ عَمَّا نقلوا، ولا يُحْفَظُ أيضًا استعمالُها صفةً لموصوفٍ محذوفٍ.
الرابع: أنَّ قوله: {كافَّةً} حالٌ من {للناس} أي: للناس كافَّة. إلاَّ أن هذا قد رَدَّه الزمخشريُّ فقال: ومَن جَعَلَه حالًا من المجرور متقدِّمًا عليه فقد أخطأ؛ لأنَّ تَقَدُّمَ حالِ المجرورِعليه في الإِحالةِ بمنزلةِ تقدُّمِ المجرورِ على الجارِّ. وكم تَرَى مِمَّنْ يَرْتكبُ مثلَ هذا الخطأ، ثم لا يَقْنَعُ به حتى يَضُمَّ إليه أن يَجْعَلَ اللامَ بمعنى إلى، لأنه لا يَسْتوي له الخطأُ الأولُ إلاَّ بالخطأ الثاني، فلابد له أَنْ يرتكبَ الخطأَيْن معًا. قال الشيخ: أمَّا قوله كذا فهو مختلَفٌ فيه: ذهب الجمهورُ إلى أنه لا يجوزُ، وذهب أبو عليّ وابن كَيْسانَ وابن بَرْهانَ وابن ملكون إلى جوازه. قال: وهو الصحيحُ. قال: ومِنْ أمثلةِ أبي عليّ: زيدٌ خيرَ ما يكونُ خيرٌ منك. التقدير: زيدٌ خيرٌ منك خيرَ ما يكونُ، فجعل خيرَ ما يكون حالًا من الكاف في مِنْكَ وقَدَّمها عليها وأنشد:
إذا المَرْءُ أَعْيَتْه المروءةُ ناشئا ** فمطلبُها كهْلًا عليه شديدُ

أي: فمطلَبُها عليه كَهْلًا. وأنشد أيضًا:
تَسَلَّيْتُ طُرًَّا عنكُمُ بَعْدَ بَيْنِكُمْ ** بذِكْراكمُ حتى كأنَّكُمُ عندي

أي: عنكم طُرًَّا. وقد جاء تقديمُ الحالِ على صاحبِها المجرور وعلى ما يتعلق به قال:
مَشْغُوفَةً بكِ قد شُغِفْتُ وإنَّما ** حَتَمَ الفراقُ فما إليك سبيلُ

أي: قد شُغِفَتْ بك مَشْغوفةً. وقال آخر:
غافِلًا تَعْرِضُ المنيَّةُ للمَرْ ** ءِ فيُدْعَى ولات حينَ إباء

أي: تَعْرِضُ المنيَّةُ للمَرْءِ غافِلًا. قال: وإذا جازَ تقديمُها على صاحبها وعلى العاملِ فيه، فتقديمُها على صاحبِها وحدَه أجوزُ. قال: ومِمَّنْ حمله على الحال ابنُ عطيةَ فإنه قال: قُدِّمَتْ للاهتمام والمنقولُ عن ابن عباس قولُه: إلى العرب والعجم وسائر الأمم، وتقديره إلى الناس كافة. قال: وقولُ الزمخشريِّ: لا يَسْتوي له الخطأ الأول إلخ فشَنيعٌ؛ لأنَّ القائلَ بذلك لا يحتاجُ إلى جَعْلِ اللامِ بمعنى إلى لأنَّ أَرْسَلَ يتعدَّى باللام قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء: 79] وأرسلَ ممَّا يتعدَّى باللامِ، وب إلى أيضًا. وقد جاءتِ اللامُ بمعنى إلى وإلى بمعناها.
قلت: أمَّا {أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ} فلا دَلالةَ فيه؛ لاحتمالِ أَنْ تكونَ اللامُ لامَ العلةِ المجازيَّةِ. وأمَّا كونُها بمعنى إلى والعكسُ فالبصريُّون لا يَتَجوَّزُون في الحروف. و {بشيرًا ونذيرًا} حالان أيضًا.
{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)}.
قوله: {لَّكُم مِّيعَادُ} مبتدأٌ وخبرٌ. والميعادُ يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مصدرٌ مضافٌ لظرفِه، والميعادُ يُطْلق على الوعدِ والوعيدِ. وقد تقدَّم أنَّ الوعدَ في الخيرِ، والوعيدَ في الشرِّ غالبًا. الثاني: اسمٌ أُقيم مُقامَ المصدرِ. والظاهرُ الأولُ. قال أبو عبيدة: الوَعْدُ والوعيدُ والميعاد بمعنىً. الثالث: أنه هنا ظرفُ زمانٍ. قال الزمخشري: الميعادُ ظرفُ الوعدِ، من مكانٍ أو زمانٍ، وهو هنا ظرفُ زمانٍ. والدليلُ عليه قراءةُ مَنْ قرأ {ميعادٌ يومٌ} يعني برفعِهما منوَّنَيْنِ، فأبدل منه اليوم. وأمَّا الإِضافةُ فإضافةُ تبيينٍ، كقولك: سَحْقُ ثوبٍ وبعيرُ سانِيَةٍ.
قال الشيخ: ولا يتعيَّنُ ما قال؛ لاحتمالِ أَنْ يكونَ التقديرُ: لكم ميعادُ ميعادِ يومٍ، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُعْرِب المضافُ إليه بإعرابه. قلت: الزمخشريُّ لو فَعَلَ مثلَه لسَمَّع به. وجَوَّزَ الزمخشريُّ في الرفع وجهًا آخرَ: وهو الرفعُ على التعظيمِ، يعني على إضمارِ مبتدَأ، وهوالذي يُسَمَّى القطعَ. وسيأتي هذا قريبًا.
وقرأ ابنُ أبي عبلةَ واليزيديُّ {ميعادٌ يومًا} بتنوين الأولِ، ونصبِ {يومًا} منوَّنًا. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ. والعاملُ فيه مضافٌ مقدرٌ، تقديرُه: لكم إنجازُ وعدٍ في يومٍ صفتُه كيتَ وكيتَ. الثاني: أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ. قال الزمخشريُّ: وأمَّا نصبُ اليوم فعلى التعظيم بإضمارِ فعلٍ، تقديرُه: أعني يومًا. ويجوز أَنْ يكونَ الرفعُ على هذا، أعني التعظيمَ.
وقرأ عيسى بتنوين الأول، ونصبِ {يوم} مضافًا للجملة بعده. وفيه الوجهانِ المتقدِّمان: النصبُ على التعظيم، أو الظرفُ.
قوله: {لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ} يجوزُ في هذه الجملةِ أَنْ تكونَ صفةً ل {مِيْعاد} إنْ عاد الضميرُ في {عنه} عليه، أو ل {يوم} إنْ عاد الضميرُ في {عنه} عليه، فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِها بالرفع أو الجرِّ. وأمَّا على قراءةِ عيسى فينبغي أَنْ يعودَ الضميرُ في {عنه} على {ميعاد} ليس إلاَّ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ الظرفَ إذا أُضيفَ إلى جملةٍ لم يَعُدْ منها إليه ضميرٌ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله:
مَضَتْ سَنَةٌ لِعامَ وُلِدْتُ فيه ** وعَشْرٌ بعد ذاكَ وحِجَّتانِ

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)}.
قوله: {وَلَوْ تَرَى} مفعولُ {ترى} وجوابُ لو محذوفان للفهم. أي: لو ترى حالَ الظالمين وقتَ وقوفِهم راجعًا بعضُهم إلى بعض القولَ لرَأَيْتَ حالًا فظيعة وأمرًا مُنْكرًا. و {يَرْجِعُ} حالٌ مِنْ ضميرِ {مَوْقوفون} والقولُ منصوبٌ ب {يَرْجِعُ} لأنه يَتَعَدَّى. قال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} [التوبة: 83]. وقولُه: {يَقُولُ الذين استضعفوا} إلى آخره تفسيرٌ لقولِه: {يَرْجِعُ} فلا مَحَلَّ له. و {أنتم} بعد {لولا} مبتدأٌ على أصَحِّ المذاهبِ. وهذا هو الأفصحُ. أعني وقوعَ ضمائرِ الرفعِ بعد {لولا} خلافًا للمبرد؛ حيث جَعَلَ خلافَ هذا لَحْنًا، وأنه لم يَرِدْ إلاَّ في قولِ يزيدَ:
وكم مَوْطَنٍ لَوْلاي

البيت. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. والأخفشُ جَعَلَ أنه ضميرُ نصبٍ أو جرٍ قامَ مقامَ ضميرِ الرفع. وسيبويهِ جعلَه ضميرَ جَرّ.
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)}.
قوله: {بَلْ مَكْرُ الليل} يجوز رفعُه مِنْ ثلاثةِ أوجه، أحدها: الفاعليةُ تقديره: بل صَدَّنا مَكْرُكُمْ في هذين الوقتين. الثاني: أَنْ يكونَ مبتدًا خبرُه محذوفٌ، أي: مَكْرُ الليلِ صَدَّنا. الثالث: العكسُ أي: سببُ كفرِنا مَكْرُكم. وإضافةُ المَكْرِ إلى الليلِ والنهار: إمَّا على الإِسنادِ المجازيِّ كقولهم: ليلٌ ماكرٌ، فيكونُ مصدرًا مضافًا لمرفوعِه، وإمَّا على الاتساعِ في الظرف فجُعِل كالمفعولِ به، فيكونُ مضافًا لمنصوبِه. وهذان أحسنُ مِنْ قول مَنْ قال: إنَّ الإِضافةَ بمعنى في أي: في الليل؛ لأنَّ ذلك لم يَثْبُتْ في غيرِ مَحَلِّ النِّزاع.
وقرأ العامَّةُ {مَكْرُ} خفيفَ الراء ساكنَ الكاف مضافًا لِما بعده. وابن يعمر وقتادةُ بتنوين {مكرٌ} وانتصابِ الليل والنهار ظرفَيْن. وقرأ أيضًا وسعيد بن جبير وأبو رُزَيْن بفتحِ الكافِ وتشديدِ الراء مضافًا لِما بعده. أي: كُرورُ الليل والنهار واختلافُهما، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ، إذا جاء وذهب. وقرأ ابن جُبير أيضًا وطلحة وراشد القارئ- وهو الذي كان يصحِّحُ المصاحفَ أيامَ الحَجَّاج بأمرِه- كذلك إلاَّ أنه بنصبِ الراء. وفيها أوجهٌ، أظهرُها: ما قاله الزمخشري، وهو الانتصابُ على المصدرِ قال: بل تَكُرُّون الإِغواء مَكَرًَّا دائمًا لا تَفْتَرُون عنه. الثاني: النصبُ على الظرفِ بإضمارِ فِعْلٍ أي: بل صَدَدْتُمونا مَكَرَّ الليلِ والنهارِ أي: دائمًا. الثالث: أنه منصوبٌ بتَأْمُرُوننا، قاله أبو الفَضل الرازي، وهو غلطٌ؛ لأنَّ ما بعد المضافِ لا يَعْمل فيما قبلَه إلاَّ في مسألةٍ واحدةٍ: وهي غير إذا كانَتْ بمعنى لا كقوله:
إنَّ أمْرًَا خَصَّني عَمْدًا مَوَدَّتَه ** على التَّنائي لَعِندي غيرُ مَكْفورِ

وتقريرُ هذا تقدَّمَ أواخرَ الفاتحة.
وجاء قولُه: {قَالَ الذين استكبروا} بغيرِ عاطفٍ؛ لأنَّه جوابٌ لقولِ الضَّعَفَةِ، فاسْتُؤْنِفَ، بخلافِ قولِه: {وَقَالَ الذين استضعفوا} فإنه لَمَّا لم يكنْ جوابًا عُطِف. والضميرُ في {وأَسَرُّوا الندامةَ} للجميع: للأتباع والمتبوعين.